النجاح
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

هكذا علمتني الحياة

اذهب الى الأسفل

هكذا علمتني الحياة Empty هكذا علمتني الحياة

مُساهمة  Admin الأحد مارس 16, 2008 5:30 am

هكذا علمتني الحياة

nكانت الدهشة قد عقدت لساني .... عندما سمعت أُستاذي الأستاذ "نايف" بسمته المهيب ، وهيئته الوقورة ... يسلم عليًّ على غير عادته . وقد رددت تحيته باقتضاب ... ووليت هارباً من وجهه أسابق الريح . غير أن صوته العنيف كان يتناهى إلى مسامعي يناديني . فتوجست منه خيفةً ...

n وما كدتُ ألتفتُ نحوه حتى رأيته يشير إلىّ : أن تعالَ !!
n
n فدق قلبي ... وامتقع لوني ... وسرت تجاهه بخطوات ذاهلات ... لأنني كنت أتوقع لنفسي مصيراً أسوداً على يد أستاذنا الجاد ...
n
nفقد كان - أطال الله بقائه - رجلاً حازماً صارماً ... دائم التقطيب والعبوس ... وكنا نحن الطلاب نرتجف هلعاً منه لمجرد سماع صوته أو الإتيان على ذكره !!

n وكنا مع هذا كله نكن له كل حب وتقدير ... وإن كان ذلك الحب والتقدير ممزوجاً بغير قليل من الرهبة التي سيطرت على قلوبنا وعقولنا ...
n حين ناداني تزاحمت الخواطر في ذهني : ماذا يريد بي ؟! ... ولماذا استدعاني ؟!!
nهل يكون قد رآني أعبث مع بعض رفاقي في الطريق ؟!! ...

nأو ربما كان الذنب غير ذلك ... فهو قد شدد علينا كثيراً ألا نقضي أوقاتنا باللهو الفارغ ... وضرب لنا مثلاً : أولئك الذين يمضون أوقاتهم في القهوات والملاهي بالذين ينتحرون انتحاراً بطيئاً ... وكان يستشهد على كلامه ذلك بقول الحسن البصري - رحمه الله - "ابن آدم : إنما أنت أيام ، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك " !!

nتزاحمت تلك الخواطر في رأسي ... حتى ما عدت أتبين صحيحها من زائفها ... وعندما وقفت بين يدي الأستاذ "نايف" لم أنبس ببنت شفه ... ولم أنطق بكلمة .... منتظراً ما تتفوه به شفتاه من تقريع ونصائح جديدة ... لعلها تُجدي معي ما لم تُجده النصائح السابقة من قبل ...

nوكم كانت دهشتي قوية عندما ألفيتُ الأستاذ "نايف" ... يقدم لي يده مصافحاً بحرارة ... فرفعتُ بصري إليه بسهوم ... وإذا إكليل من الابتسامات العذاب يتوج شفتيه ... وإذا السرور باد على قسمات وجهه .

nولعل أستادنا لاحظ دهشتي تلك ... فأراد أن يزيلها من نفسي بقوله : أظنك تعجب لهذا الرضى الظاهر في وجهي !! ... لابأس سأزيل من نفسك كل خواطر السوء التي قد تخطر على بالك تجاهي ... عندما تصطحب معك رفيقيك أحمد وصلاح وتزوروني جميعاً في منزلي هذا المساء !! ... هل فهمت هذا الكلام ياولدي ؟!! ...

nقل لهما : إني أدعوكم إلى بيتي مساء هذا اليوم لتناول كأس شاي ، ولنتذاكر بعض الأمور المدرسية الهامة ...
nوما كاد الأستاذ "نايف" ينتهي من كلامه هذا ، حتى استحثتني المفاجأة غير المنتظرة إلى رفيقي اللذين ذكرهما لي أستاذي ... لأُفضي لهما بجلية الأمر ... ولا تسأل عن مدى وقع المفاجأة عليهما لما علما بالخبر !! ...

nإذ انطلقا يكذبانني في دعواي ... ولم يصدقاني إلا بعد أن أقسمت لهما بأغلظ الأيمان أني لا أكذب ولا أمزح ... وأن ما أقوله هو جدٌّ لا هزل فيه

nوفي المساء كنتُ ورفيقاي في طريقنا إلى بيت أُستاذنا ... ونحن بين مصدق ومُكذّب ... بل أنا نفسي لم أكن مصدقاً نفسي . كنت أخشى أن أكون واهماً أو حالماً ... لأنني كنت كثيراً ما أستسلم لأحلام اليقظة ...

n ولما وقفنا أمام باب دار الأستاذ "نايف" ... أحسستُ بفداحة الخطب الذي أريد أن أصبه على رأسي ورأس رفيقاي ...
n وبحركة لا إرادية طرقتُ الباب ... ولبثنا دقائق تهيؤاً للهواجس ... حتى إذا سمعنا وقع خطوات قادم جمدت الدماء في عروقنا ... وزاغت منا الأبصار وهي تفتش عن مهرب من هذه الورطة التي أوقعنا أنفسنا فيها !! ...
nولم يلبث الباب ان انفرج عن طلعة الأستاذ الوقور الذي شرع لسانه يرحب بنا ويدعونا للدخول بأحرِّ تحريبٍ وأجمله ...

nوبعد أن استقر بنا المجلس ... بدأ الأستاذ "نايف" يحدثنا عن المدرسة ومشاكلها والطلاب ومشاكساتهم الصبيانية ... وفيما نحن في ذلك ... إذ بنقرات على باب الغرفة فخرج الأستاذ "نايف" ليعود بعد لحظات حاملاً معه طبقاً اصطفت فوقه كؤوس الشاي الملون .

nحيث كان الكأس في نصفه السفلي بلون الزلال ... بينما كان القسم العلوي بلون العقيق !! فعجبنا لهذا أشد العجب ... ودارت عيوننا في مقلها متبادلة نظرات التعجب من هذا التكريم الذي نلاقيه من شخص كنا نخافه فيبعدنا خوفنا منه ما وسعنا الابتعاد .

nومكثنا لحظات ننتظر الإذن لنا بشرب الشاي لأننا لا نجرؤ على ذلك ولو في بيت الأستاذ نفسه ... وكأن الأستاذ شعر بهذا فقال حاثاً لنا :
nألا تشربون ؟!!
nفتناول "أحمد" كأسه وقرَّبه من فمه ليشرب منه ... ولكنه ما لبث أن أسرع بإرجاعه إلى حيث كان ، وقسمات وجهه تتقلص بتقرف وامتعاض !! ولمحتُ ذلك كله ... كما لمحتُ طيف ابتسامة ودود ترتسم على محيا الأستاذ "نايف" الذي بادر قائلاً : مالك يا أحمد ؟!! اشرب ...

nثم التفت إليّ وإلى رفيقي "صلاح" قائلاً : وأنتما لماذا لاتشربان ؟!!...
nفرفعت كأسي إلى فمي بتؤدة وحذر ... ولكنّ حذري لم يُسعفني كثيراً ... كما أن ذكائي لم يغن عني فتيلاً ... لأني تلمظتُ بمرارةٍ لفّت لساني وبلعومي . كما أن عينيّّ جحظتا قليلاً ... وأحسست بالغثيان يدور معه رأسي ، غير أني تماسكت والتقزز بادٍ عليّ .

nوهنا أطلق الأستاذ الوقور ضحكةٍ خفيفه وقال : مالك يا "عبود" إشرب ... هذا الشاي لذيذ الطعم ... إن هذا النوع من الشاي من أفخر أنواع الشاي على الإطلاق !!...
nلم أرد على الأستاذ ... وإنما ملتُ على رفيقي "صلاح" وقلت له هامساً : اشرب ياصلاح ... اشرب ...
nفرفع "صلاح" كوبه إلى فمه وارتشف منه رشفه ... ولكنّ "صلاح" ما كاد يفعل ذلك حتى انتابته نوبة سعال غريب !!

nفقال الأستاذ مبتسماً : ما لك ياصلاح ؟!! ما الذي جرى لكم يا أبنائي ؟!!...
nفتبادلنا النظرات فيما بيننا ... وكنتُ أشجع رفاقي ... فقلت بلهجة تنمُّ عن خوف مهذب : يا أستاذ نايف ... أظنُ أن الشاي لم يوضع له سكر !! ...
nفقال الأستاذ بثقة وحزم : لا ... بل فيه سكر !! ...
nفلزمتُ الصمت ، لأني لا أجرؤ أكثر مما جرؤت عليه من الكلام ...

nوساد صمتٌ لبرهة ... ثم كأنّ الأستاذ "نايف" أراد أن يغير مجرى الحديث فأخذ يحكي لنا ذكريات أيامه الخوالي عندما كان في عهد طلب العلم ... وكيف كان يسهر الليالي الطوال يطالع الكتب على ضوء فانوسه !!... وحدثنا كيف أنه كان يبيت في أكثر الليالي طاوياً من شدة الجوع !! ...

nوأفاض الأستاذ في ذكر تلك الأيام المريرة التي مرت عليه ... كنا ندعو الله في سرنا أن يُدخل الرحمة في قلبه ... فينسى تجريعنا "الدواء المر" . الذي يُعتبر عنده من أفخر أنواع الشاي ...

nولكنًّ الأستاذ قطع علينا خواطرنا تلك بقوله : ألا تريدون أن تشربوا الشاي يا أولادي قبل أن يبرد ؟ !!
nفقلنا : نحن لا نحب الشاي !!

nفقال الأستاذ : لا بدًّ أن تشربوه .. هل تعصون أستاذكم ؟!!...
nفاستجمعتُ شجاعتي كلها وقلت له : والله يا أستاذ نحن لا نحب الدواء المر أبداً ... كائناً ما كان نوعه ... وعندما أمرض أتحامل على نفسي ولا أخبر أهلي بمرضي كيلا يجبرني أبي على تجرع الدواء المر !!

nفتضاحك الأستاذ وقال : ولكنًّ لا بد من شرب الشاي ... لأني ما أتيتُ بكم إلى بيتي إلا لأسقيكم منه ... تفضلوا واشربوا !! ...

n نظر بعضنا إلى بعض ، ثم استرقنا النظر في وجه الأستاذ ... وإذا عليه هيئته المدرسية الصارمة ... فتخاذلت قوانا وشعرنا بضعفنا أمام شخصيته القوية ... ثم تناول كل منا كأسه بيمينه ... وشرع يرشف منه رشفات متقطعة ... وكأنه يرشف السم الزعاف !! .
nوكنا ننظر إلى النصف الآخر من الكأس - النصف المائي الملون - فنحارُ فيما سنلاقي فيه ... حتماً أنه مرٌّ كالعلقم !! .

وقلتُ في نفسي : لا بأس أيها الأستاذ ... والله لنعذبنك عذاباً شديداً كما عذبتنا !! .. ولأشجن رأسك عندما تمر من أمام بيتنا !! ... ويلك من أخي الذي سيبطش بك عندما أفتعل حولك بعض الشائعات التي أُتقنُ افتعالها ... ولكنًّ سأشرب سمي الآن دفعة واحدة ... وسترى أيها الأستاذ ما أفعل بك ...
n وشربتُ شربة كبيرة من كأسي وأنا مغمض العينين ... ثم أتبعتها بأخرى دون وعي . فأحسستُ بحلاوة خفيفة في بلعومي ...
n فأعدت الكرة ... فإذا بالحلاوة تزداد ... وعندما انتهيتُ إلى القسم المائي الملون ... كان رفيقاي يرمقاني باستغراب لجرأتي في شرب هذا السم الزعاف !! ...
nوتذوقتُ القسم المائي اللون وإذا هو أحلى من العسل المصفى ... وكان أحلى ما فيه تلك الثمالة التي استقرت في القعر ... فمددتُ لساني إليها وشربتها حتى أتيتُ على آخرها ...

n ثم قلت لرفيقيًّ بمرح : يا صاحباي : اشربا عسلاً مصفى ولا تخافا !! ...
nثم قلت للأستاذ بنشوة غامرة : سامحك الله يا أستاذ ... أما كان الأولى أن تسقينا شاياً عادياً بلون واحد ... فتكفينا مؤونة المرارة في البداية والحلاوة الحلوة في النهاية !! ...

nفتأملني الأستاذ ملياً ... ثم اتخذ سمتاً وقوراً وقال : من أجل هذا جئتُ بكم إلى بيتي يا أبنائي النجباء . توسمتُ فيكم الفطنة والذكاء ... ورأيتكم أهلاً لتلقي النصائح ... فأحببتُ أن أعطيكم حكمة علمتنيها الحياة التي قصصتُ عليكم بعض ما كان من دروسها لي ...

n أردتُ أن أعلمكم حكمة في درسٍ لا تنسونه مدى الحياة ... وستذكرونني دائماً بهذا الدرس العملي عندما تكبرون فتقصونه لأولادكم وأحفادكم وطلابكم !!! ولعلكم استطعتم استخلاص الحكمة من هذا الكأس من الشاي !! ...
nوفي تلك الأثناء كان رفيقاي قد انتهيا كل منهما ... من شرب كأس الشاي الخاص به

nوهنا اعتدل الأستاذ في جلسته وقال بصوت وقور مهيب : أردت يا أبنائي أن أقول لكم : لن تذوقوا الحياة رائقاً عذباً قبل أن تتجرعوا مرارتها .

nأردت أن أقول لكم : لابدًّ دون العسل من وخزات النحل المؤلمة ... ولا بدًّ قبل الحصول على الورد من ألم الشوك المؤذي ... فجدوا واعملوا يا أبنائي في فترات الصبا والشباب واغتنموا شبابكم وفتوتكم قبل أن تصيروا إلى خريف العمر وشتائه ... وأنتم قد ضيعتم شبابكم وقوتكم ... فتندموا حينئذٍ ولات ساعة مندم .
أهم الدروس المستفادة من القصة
n 1- التربية العملية الفعلية أعظم تأثيراً في النفس من التربية القولية فقط
n 2- قال الشاعر :
n لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله - - - - لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

n 3- من أراد حلاوة الشفاء فليصبر قبلها على مرارة الدواء
n 4- قال الشاعر :
n بقدر الجهد تكتسب المعالي - - - - ومن طلب العلا سهر الليالــي
n تروم المجد ثم تنام ليـــــــــلاً - - - - يغـوص البحــر من طلب اللالي

n 5- ليس دور المعلم قاصراً على حشو المعلومات في أذهان الطلاب في أثناء الحصة المدرسية ، بل مهمته الأساسية هي تربيتهم على طاعة الله ، والالتزام بالخلق الفاضل داخل المدرسة وخارجها .
n
n 6- الفائدة أو المعلومة التي يحصلها المرء بعد تعب وجهد تثبت في الذهن أكثر من المعلومة التي يحصلها سهلة بدون مشقة أو تعب
Admin
Admin
المدير

المساهمات : 452
تاريخ التسجيل : 22/01/2008

https://kmlhmn.yoo7.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى